يُعدّ شكري القوتلي، المولود في دمشق عام 1891، شخصية محورية في تاريخ سوريا الحديث، حيث ارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بالنضال ضد الاستعمار الفرنسي وتحقيق الاستقلال. كان القوتلي سياسيًا بارزًا وأحد أبرز قادة الحركة الوطنية، لكن حياته السياسية شهدت تقلبات كبيرة بين النضال والسجن والعودة إلى الحكم ثم التنازل عنه.
من "الجمعية العربية الفتاة" إلى المشنقة
بدأ القوتلي مسيرته النضالية في شبابه، عندما كان يدرس في إسطنبول، حيث انضم إلى الجمعية العربية الفتاة السرية، التي كانت تدعو إلى التحرر من الحكم العثماني. كان نشاطه السياسي المبكر سببًا لاعتقاله والحكم عليه بالإعدام ثلاث مرات، لكنه نجا في كل مرة، وتمكن من الفرار إلى مصر.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الحكم العثماني في سوريا، عاد القوتلي إلى البلاد ليواصل نضاله، لكن هذه المرة ضد الانتداب الفرنسي. انضم إلى صفوف الحركة الوطنية، وأصبح شخصية محورية في الكتلة الوطنية، وهي مجموعة سياسية قادت الكفاح السلمي والسياسي ضد الفرنسيين.
رئاسته الأولى: تحقيق الجلاء والمشهد المضطرب
في عام 1943، انتخب القوتلي رئيسًا للجمهورية السورية، وبدأت فترة حاسمة في تاريخ البلاد. كان هدفه الأسمى هو تحقيق الجلاء الكامل للقوات الفرنسية، وهو ما نجح فيه بالفعل. في 17 أبريل 1946، تم إجلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي السورية، وصار هذا اليوم "يوم الجلاء"، عيدًا وطنيًا يحتفل به السوريون.
ولكن بعد هذا الإنجاز التاريخي، واجهت حكومة القوتلي تحديات داخلية وخارجية ضخمة. فمن الناحية الداخلية، واجهت البلاد أزمات اقتصادية، واتُهم القوتلي بتزوير الانتخابات النيابية عام 1947. أما على الصعيد الخارجي، فكانت الهزيمة في حرب فلسطين عام 1948 بمثابة ضربة قاصمة، حيث أدت إلى موجة من السخط الشعبي والسياسي. استغل حسني الزعيم هذه الأوضاع لتنفيذ أول انقلاب عسكري في تاريخ سوريا الحديث عام 1949، مما أطاح بحكم القوتلي.
العودة إلى الحكم والوحدة مع مصر
بعد سنوات من الاضطرابات والانقلابات العسكرية، عاد القوتلي إلى رئاسة الجمهورية في عام 1955. لكن ولايته الثانية لم تدم طويلًا. كان القوتلي يؤمن بفكرة الوحدة العربية، ولهذا السبب، كان من أبرز المؤيدين للوحدة مع مصر. في عام 1958، تنازل عن رئاسة سوريا ليتيح الفرصة لقيام الجمهورية العربية المتحدة برئاسة جمال عبد الناصر.
لم تدم الجمهورية المتحدة سوى ثلاث سنوات، حيث انتهت بانفصال سوريا عام 1961. بعد ذلك، غادر القوتلي سوريا إلى بيروت، وظل بعيدًا عن الحياة السياسية.
وفاته وإرثه
توفي شكري القوتلي في بيروت عام 1967، ودُفن في دمشق. رغم الانتقادات التي وجهت إليه في فترات مختلفة، إلا أن إرثه يظل راسخًا كقائد وطني كرس حياته للنضال من أجل استقلال بلاده. يُلقب القوتلي بـ "أبو الجلاء"، ويبقى اسمه رمزًا للنضال من أجل السيادة الوطنية في تاريخ سوريا.

